حضور القلب ... من أسرار السعادة

نحن كبشر، نتحرك في هذه الحياة بدافع الإنجاز. نضع لأنفسنا أهدافًا، نعمل سنوات من أجلها، وننتظر اللحظة التي نصل فيها إلى قمة نشوة النجاح. لكن، هل لاحظت أن هذا الشعور لا يدوم؟ ربما أيام، وربما ساعات، ثم يبدأ السباق من جديد نحو هدف آخر. وهكذا، نعيش في دائرة لا تنتهي من الركض، وقد نُهدر أجمل سنوات العمر في انتظار لحظة واحدة عابرة.

الحياة لا تُقاس بلحظة الوصول، بل بالرحلة نفسها. السر الذي يجعل هذه الرحلة ممتعة، مهما طالت أو ثقلت، هو أن نحيا بحضور القلب. أن نستحضر المعنى من وراء ما نفعله، ونربطه بالقيم التي نؤمن بها. النجاح الحقيقي ليس نقطة على خط النهاية، بل هو قيم ومبادئ نحققها يوميًا، لحظة بلحظة.

حين نعيش بمعنى، كل ساعة تصبح إنجازًا، وكل خطوة انتصارًا. نصبح أكثر وعيًا، أكثر طمأنينة، وأكثر قدرة على الاستمتاع حتى بالمشاق، لأنها تحمل في طياتها معنى أكبر.

البُعد النفسي: من "اليقظة الذهنية" إلى مدرسة علم النفس الإنساني

هذا المبدأ، الذي نُسميه اليوم "حضور القلب"، وجدت له النفس البشرية ترجمة في مفهوم اليقظة الذهنية (Mindfulness).

  • طوره العالم جون كابات زين (Jon Kabat-Zinn) في السبعينات، وهو طبيب بيولوجي، مؤسس "برنامج الحد من التوتر القائم على اليقظة الذهنية" (MBSR). ركّز فيه على الانتباه للحظة الحاضرة بلا حكم ولا مقاومة.

  • وفي مدرسة العلاج السلوكي الجدلي (DBT) التي أسستها مارشا لينهان (Marsha Linehan)، نجد اليقظة الذهنية كأحد أعمدتها الأربعة الأساسية، حيث تُستخدم لتقليل المعاناة وتحقيق التوازن العاطفي.

  • أما في العلاج السلوكي المعرفي (CBT) فقد أدخل باحثون مثل زيندل سيغال (Zindel Segal) اليقظة الذهنية ضمن برامج "العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية (MBCT)" لعلاج الانتكاسات الاكتئابية.

  • وعلى مستوى أوسع، نجد مدرسة علم النفس الإنساني (Humanistic Psychology) مع رموزها مثل كارل روجرز (Carl Rogers) و أبراهام ماسلو (Abraham Maslow)، قد رفعت من قيمة "الحضور" والبحث عن "المعنى" كجزء من الصحة النفسية والارتقاء بالذات.

إذن، حضور القلب ليس رفاهية، بل أحد أعمدة العلاج النفسي الحديثة، التي أثبتت فعاليتها في مواجهة القلق والاكتئاب والاحتراق النفسي.

البُعد الروحي: النية في الإسلام

لكن المدهش أن هذا المبدأ ليس جديدًا على تراثنا. الإسلام سبق كل المدارس الحديثة حين جعل النية أساسًا لكل عمل. قال رسول الله ﷺ:
"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه."

النية هنا ليست مجرد تفكير داخلي، بل هي وعي ومعنى ينعكس على كل فعل. هي حضور القلب قبل اليد واللسان. وهكذا، يلتقي الدين مع أرقى ما توصلت إليه مبادئ الصحة النفسية الحديثة: أن المعنى هو الذي يحدد جودة حياتنا، لا مجرد النتائج.

لماذا نحتاج إلى حضور القلب؟

لأن الحياة مليئة بالركض، ومليئة بالإرهاق. إذا عشناها بلا معنى، استنزفتنا، لكن إن عشناها بحضور القلب، صارت كل لحظة فرصة للارتقاء، وكل جهد عبادة، وكل عمل رسالة.

حين نستحضر النية، ونعطي كل خطوة معنى، ننتصر في الحاضر، لا في المستقبل البعيد فقط. وهذا هو سر السعادة الحقيقية.

Comments